مراحل عديدة من احتكاك اللهجات العربية بها، وذلك بفضل موقعها الديني؛ فهي المشرفة على خدمة الكعبة المشرفة، وتَهْفو إليها أفئدة العرب جميعًا، وبفضل النشاط التجاري الذي كانت قريش تعقده في حواضرها، وكانت اللهجة القرشية تستقي من لهجات القبائل ما تحتاج إليه من صفوة اللغات، حتى تمَّ تكوينُها قُبَيْل نزول الوحي وقد اشتملت لهجة قريش على خصائص كثيرة من لهجات القبائل الأخرى؛ إذ استوعبت صفوة العناصر الحميدة لهذه اللهجات. فإذا قلنا: إن القرآن نزل بلغة قريش، فليس معنى هذا أننا نَغُضُّ الطرف عن تأثير اللغات الأخرى في مفردات القرآن ونسيجه الصوتي، وإنما نقصد أن لغة قريش هي اللغة النموذجية العالية التي تكوَّنَتْ عبر مراحل عديدة، واشتملَتْ على خصائص لهجات العرب الأخرى، وقد تكفَّلَت كتب (لغات القبائل) بإسناد كل مفردة قرآنية إلى أصل قبيلتها التي انحدرت منها، على نحو ما تبيَّن لنا في موضوع اللغة. والحق أنَّ هذا التطور التاريخي للهجة قريش التي نزل بها القرآن كان مَحْمَدة لصالح العرب جميعًا؛ وذلك لأنَّ هذه اللهجة أصبحت لغة الأدب والشعر وقاسمًا مشتركًا لدى جميع القبائل، ولو كانت لهجة قريش مقصورةً عليها غير معهودة عند العرب لما استطاعت هذه القبائل أن تحقِّق الانتفاع بالقرآن الكريم والتعامل معه؛ لأنه بلهجةٍ غيرِ لهجتها، وبذلك صار تحدِّي القرآن للعرب جميعًا يقوم بغرضه الذي سِيق من أجله، فهو معجزٌ بالإضافة إلى قبائلهم كلها، ولو كان التحدي مُوَجَّهًا إلى قبيلة قريش وحدها؛ لقيل: إن القرآن جاء بما لا قدرةَ للعرب على جنسه. وقد بذل النحاة جهدًا فائقًا لخدمة القرآن بمختلف قراءاته المتواترة والشاذة، فوجَّهوها بالتعليل المستند إلى الأصول المعتمدة عندهم، واستشهدوا على ذلك بالشواهد الفصيحة التي جمعوها من البوادي عبر رحلاتهم العلمية المديدة، وقد استندوا إلى هذه القراءات في تأصيل قواعدهم، وإرساء معالم الصناعة النحوية والصرفية، وضبط مفردات اللغة. ومن المعلوم أن للقراءات الصحيحة شروطًا ومعايير تجعلها مقبولة، وقد اعتمدها النحاة واللغويون والبلاغيون، واستنبطوا منها