وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام، ويُنْهُونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك، من أعدائك {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي: يتأولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} قيل: نزلت في أقوام من اليهود، قتلوا قتيلا، وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.
والصحيح أنها نزلت في اليهوديَّيْن اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، من الأمر برجم من أحْصن منهم، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.
قلت: ثم استدل بمجموعة من النصوص نكتفي بنص واحد منها لعدم الإطالة:
عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهودي محمَّم مجلود، فدعاهم فقال:"أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ " فقالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال:"أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم؟ " فقال: لا والله، ولولا أنك نَشَدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريفَ تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئًا نقيمه على الشريف والوَضِيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه". قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله - عز وجل -: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقولون: ائتوا محمدًا، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، إلى قوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}