للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نحو اعتدائه عليكم بقتاله إياكم؛ لأني قد جعلتُ الحُرمات قصاصًا، فمن استحلَّ منكم أيها المؤمنون من المشركين حُرْمةً في حَرَمي، فاستحلوا منه مثله فيه (١).

ويبدو أن عدم فهم المراد بقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} والنظر إليه مجردًا كما أسلفت هو الذي سبب هذا الفهم الخاطئ. فكأنهم فهموا أن قوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أمر من الله بالظلم، فقد يقال: إذا كانت الآيات نزلت لتبين كيف يرد على عدوان المشركين وغيرهم، فلماذا جاء فيها {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أليس الاعتداء من الظلم؟

نقول وبالله التوفيق: ولا يراد بالاعتداء هنا الظلم، وإنما سمي جزاء الظالمين عدوانًا مشاكلة كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: ٤٠].

فإن قال قائل: وهل يجوز الاعتداء على الظالم كما جاء في قوله تعالى: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}؟

فيقال: إن المعنى في ذلك على غير الوجه الذي إليه ذهبتَ، وإنما ذلك على وَجه المجازاة لما كان من المشركين من الاعتداء، يقول: افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم؛ كما يقال: (إن تَعاطيتَ مني ظلما تعاطيته منك)، والثاني ليس بظلم.

كما قال عمرو بن شأس الأسديّ: (٢)

جَزَيْنَا ذَوِى العُدْوَانِ بِالأمْسِ قَرْضَهُمْ ... قِصَاصًا، سَواءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ.

وهذا يوضح أن من أساليب كلام العرب أسلوب يقال له المشاكلة اللفظية. (٣)

إذن سَمَّاه اعْتِداء؛ لأَنه مجُازاةُ اعْتِداءٍ بمثْل اسمه؛ لأَن صورة الفِعْلين واحدةٌ وإِن كان أَحدُهما طاعة والآخر معصية، والعرب تقول: ظَلَمني فلان فظلَمته؛ أَي: جازَيْتُه بظُلْمِه، لا وَجْه للظُّلْمِ أَكثرُ من هذا، والأَوَّلُ ظُلْم والثاني جزاءٌ ليس بظلم؛ وإن وافق اللفظُ اللفظَ


(١) الطبري (٣/ ٥٨١) بتصرف يسير، والشوكاني في فتح القدير (١/ ٢٥٢) بتصرف.
(٢) راجع ترجمته في طبقات فحول الشعراء (١/ ٢٦).
(٣) الطبري (٣/ ٥٧٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>