للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكما جاءت الشريعة لتصلح حال المعتدين، إما بالزجر أو بالعفو، ولتقضي على الجريمة في المجتمع الإسلامي؛ جاءت أيضًا مراعية لأحوال الناس في الإيمان؛ فهم يتفاوتون، فقد يُعتدى على مؤمن قوي الإيمان، قوي النفس، عظيم الصبر، وقد يُعتدى على مؤمن ضعيف الإيمان، ضعيف الصبر، سريع الغضب. ورب العالمين هو الذي خلق الخلق جميعًا، وهو الذي يعلم أحوالهم؛ لذلك قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)} [الملك: ١٤] فجاءت الشريعة تناسب أحوال المؤمنين كلها.

لذلك جعل الله المؤمنين صنفين: صنف يعفون عن الظالم فبدأ بذكرهم في قوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧)} [الشورى: ٣٧]، وصنف ينتصرون من ظالمهم، ثم بين حدَّ الانتصار بقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: ٤٠] فينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي. (١)

وعلى هذا فقد وضح رب العالمين مراتب العقوبة فحرَّم منها، وأحل، وندب، قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: ٣٦ - ٤٣].

ذكر الله تعالى في هذه الآي مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل، وفضل، وظلم. فأباح مرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله.


(١) تفسير القرطبي (١٦/ ٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>