قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}[الأنعام: ٩٣]. ولا تمانع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: إني قد قلت مثل ما قال محمد، وأنه ارتد عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا كذبًا، وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسي الكذابين ادعيا على الله كذبًا أنه بعثهما نبيين، وقال كل واحد منهما: إن الله أوحى إليه، وهو كاذب في قيله؛ فإذا كان ذلك كذلك؛ فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقًا على الله كذبًا وقائلًا في ذلك الزمان وفي غيره: أوحى الله إلي، وهو في قيله كاذب لم يوح الله إليه شيئًا؛ فأما التنزيل فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم، وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم، وجائز أن يكون عنى به جميع المشركين من العرب؛ إذ كان قائلو ذلك منهم فلم يغيروه؛ فعيرهم الله بذلك، وتوعدهم بالعقوبة على تركهم نكير ذلك، ومع تركهم نكيره هم بنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - مكذبون، ولنبوته جاحدون، ولآيات كتاب الله وتنزيله دافعون؛ فقال لهم جل ثناؤه: ومن أظلم ممن ادعى علي النبوة كاذبًا وقال: {أوحي إلي} ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} فينقض قوله بقوله، ويكذب بالذي تحققه، وينفي ما يثبته، وذلك إذا تدبره العاقل الأريب علم أن فاعله من عقله عديم. (١)
وقال القرطبي: ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن، فيقول: وقع في خاطري كذا أو أخبرني قلبي بكذا، فيحكمون بما يقع في قلوبهم، ويغلب عليهم من خواطرهم، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية فيقفون على أسرار الكليات، ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص