أحدها: أنا روينا أن بلالًا صبر على ذلك العذاب، وكان يقول: أحد أحد، ولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بئس ما صنعت بل عظمه عليه، فدل ذلك على أنه لا يجب التكلم بكلمة الكفر.
وثانيها: ما رُوي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله، فقال: ما تقول في؟ قال: أنت أيضًا، فخلاه وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: ما تقول في؟ قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه فقتله، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال:"أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئًا له" وجه الاستدلال بهذا الخبر من وجهين: الأول: أنه سمى التلفظ بكلمة الكفر رخصة. والثاني: أنه عظم حال من أمسك عنه حتى قتل. وثالثها: أن بذل النفس في تقرير الحق أشق؛ فوجب أن يكون أكثر ثوابًا لقوله - عليه السلام -: "أفضل العبادات أحمزها" أي: أشقها. ورابعها: أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهر قلبه ولسانه عن الكفر، أما الذي تلفظ بها فهب أن قلبه طاهر عنه إلا أن لسانه الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة؛ فوجب أن يكون حال الأول أفضل، والله أعلم (١).
واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له.
فقال أصحابُ مالكٍ الأخذَ بالشدة في ذلك، واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الأخذ بالرخصة. روى خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلت: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال:"قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشي بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" فوصفه - صلى الله عليه وسلم - هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن