للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله" (١).

قال ابن حجر: قَوْله: (بَيْن أَمْرَيْنِ) أَيْ: مِنْ أُمُور الدُّنْيَا، يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله: (مَا لَمْ يَكُنْ إِثمًا)؛ لِأَنَّ أُمُور الدِّين لَا إِثْم فِيهَا، وَقَوْله: (مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا) أَيْ: مَا لَمْ يَكُنْ الْأَسْهَل مُقْتَضِيًا لِلْإِثْمِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَخْتَار الْأَشَدّ، وقَوْله: (وَمَا اِنْتَقَمَ لِنَفْسِهِ) أَيْ: خَاصَّة، فَلَا يَرِد أَمْره بِقَتْلِ عُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط وَعَبْد الله بْن خَطَل وَغَيْرهمَا مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِيه؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مع ذلِكَ يَنْتَهِكُونَ حُرُمَات الله، وَقِيلَ: أَرَادَتْ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِم إِذَا أُوذِيَ فِي غَيْر السَّبَب الَّذِي يُخْرِج إِلَى الْكُفْر، كَمَا عَفَا عَنْ الْأَعْرَابِيّ الَّذِي جَفَا فِي رَفْع صَوْته عَلَيْهِ، وَعَنْ الْآخَر الَّذِي جَبَذَ بِرِدَائِهِ حَتَّى أثَّرَ فِي كَتِفه (٢).

وعَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَال الله الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ" (٣).

وقال النووي: فِيهِ اِحْتِمَال الْجَاهِلِينَ وَالْإِعْرَاض عَنْ مُقَابَلَتهمْ، وَدَفعْ السَّيِّئَة بِالْحَسَنَةِ، وَإِعْطَاء مَنْ يُتَأَلَّف قَلْبُهُ، وَالْعَفْو عَنْ مُرْتَكِب كَبِيرَة لَا حَدّ فِيهَا بِجَهْلِهِ، وَإِبَاحَة الضَّحِك عِنْد الْأُمُور الَّتِي يُتَعَجَّب مِنْهَا فِي الْعَادَة، وَفِيهِ كَمَالُ خُلُق رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَحِلْمه وَصَفْحه الْجَمِيل (٤).

فبذلك نكون قد بينا رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبينا أذية المشركين له - صلى الله عليه وسلم -، وذكرنا عقوبات من آذاه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان ينتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله - عز وجل - فينتقم لله.

وأما قولهم: إن المسيح - عليه السلام - حصل معه إهانات، وإساءات كان يقابلها بالعفو والغفران فنحن قد بينا حلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعفوه لمن آذاه؛ طالما أن هذا الأذى بعيد عن حرمات الله - عز وجل -.

ولم يخلق من لدن آدم إلى قيام الساعة مَنْ هو أرحم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحلم منه صلوات ربي وسلامه عليه.


(١) أخرجه البخاري (٦١٢٦)، ومسلم (٢٣٢٧).
(٢) فتح الباري (٦/ ٦٦٥/ ٦٦٦).
(٣) أخرجه البخاري (٦٠٨٨)، ومسلم (١٠٥٧).
(٤) شرح النووي (٤/ ١٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>