للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قد قدمنا في المبحثين الأولين أن أصل الدين واحد وهو دين الإسلام، وأن الأهداف التي جاءت بها الرسالات واحدة. فهذا لا يمنع أن تختلف الشرائع وذلك حسب الظروف والأوضاع التي كانت سائدة بها بما يكفل صلاحها ويزيل ما ران في قلوبها من ظلمات. والقرآن الكريم يخبرنا أن الرسل جميعًا حملوا ميزان العدل والقسط، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: ٢٥]. وأنهم أمروا بأن يكسبوا رزقهم بالحلال، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: ٥١]، ولذلك قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: ٤٨].

فهذا إخبار عن الأمم المختلفة باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد. فالشرائع مختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حرامًا، ثم يحل في الشريعة الأخرى وبالعكس، وخفيفًا فيزداد في الشدة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة والحجة الدامغة. وهذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ منها شيئًا. ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرعة على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم. ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: ٤٨]. أي أنه تعالى شرع لنا الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم. ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله (١).

وممن قال به علي - رضي الله عنه - قال: الإيمان منذُ بَعث الله تعالى ذكره آدم - صلى الله عليه وسلم -: شهادةُ أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، لكلّ قوم ما جاءَهم من شرعة أو منهاج، فلا يكون المقرُّ


(١) تفسير الطبري (٦/ ٢٧٠)، والمحرر الوجيز (٢/ ٢٠٠)، والقرطبي (٦/ ٢٠١ - ٢٠٢)، وابن كثير (٥/ ٤٤٨ - ٤٤٩)، وفتح البيان (٣/ ٤٤٣ - ٤٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>