للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكرر سبحانه هذه الآية في هذه السورة في أحد وثلاثين موضعًا، تقريرًا للنعمة، وتأكيدًا للتذكير بها، على عادة العرب في الاتساع ثمانية منها: ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، بعدد أبواب جهنم، وحسن ذكر الآلاء عقبها، لأن من جملة الآلاء: رفع البلاء، وتأخير العقاب، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنيتن وأهلها، بعدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنيتن الأولين، أخذًا من قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها؛ استحق هاتين الثمانيتين من الله ووقاه السبعة السابقة، أفاده شيخ الإسلام في متشابه القرآن.

قال القتيبي: إن الله عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل خلة وضعها بهذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين، لينبههم على النعم، ويقررهم بها، كما تقول لمن تتابع له إحسانك وهو يكفره: ألم تكن فقيرًا فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملًا فعززتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلًا فحملتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانًا فكسوتك أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا، ومنه قول الشاعر:

لا تقتلي رجلًا إن كنت مسلمة ... إياك من دمه إياك إياك

ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب، وذلك لأن الله تعالى ذكر في هذه السورة ما يدل على وحدانيته: من خلق الإنسان، وتعليمه البيان، وخلق الشمس والقمر، والسماء والأرض، إلى غير ذلك مما أنعم به على خلقه، وخاطب الجن والإنس بالأشياء المذكورة، لأنها كلها منعم بها عليهم.

قال الحسين بن فضيل: التكرير طرد للغفلة، وتأكيد للحجة، وذهب جماعة منهم ابن قتيبة إلى أن التكرير لإختلاف النعم، فلذلك كرر التوقيف مع كل واحدة (١).


(١) فتح البيان في مقاصد القرآن (١٣/ ٣١٨) وما بعدها.
* نقل هذا أبو هلال في الصناعتين (ص ١٤٤)، وانظر أمالي المرتضى (١/ ٨٦)، وقد قال المرتضى في (ص ٨٨)، فإن قيل: إذا كان الذي حسن التكرار في سورة الرحمن ما عدده من الآيات ومن نعمه، فقد عدد =

<<  <  ج: ص:  >  >>