ذكروا أن صحيفة جابر -على كبرها- قرئت عليه مرة واحدة، وكان أعمى؛ فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة، فلم يخطئ حرفًا ثم قال: لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة، وكان غالبهم يكتبون ثم يتحفظون ما كتبوه، ثم منهم من يبقى كتبه، ومنهم من إذا أتقن المكتوب حفظًا محا الكتاب، وهؤلاء ونفر لم يكونوا يكتبون، غالبهم ممن رزقوا جودة الحفظ، وقوة الذاكرة كالشعبي والزهري وقتادة، وقد عرف منهم جماعة بالتزام رواية الحديث بتمام لفظه: كالقاسم بن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن سيرين، ورجاء بن حيوة.
أما أتباع التابعين فلم يكن فيهم راوٍ مكثر إلا كان عنده كتب بمسموعاته يراجعها، ويتعاهدها، ويتحفظ حديثه منها، ثم منهم من لم يكن يحفظ، وإنما يحدث من كتابه، ومنهم من جرب عليه الأئمة أنه يحدث من حفظه فيخطئ، فاشترطوا لصحة روايته أن يكون السماع منه من كتابه، ومنهم من عرف الأئمة أنه حافظ، غير أنه قد يقدم كلمة أو يؤخرها، ونحو ذلك مما عرفوا أنه لا يغير المعنى، فيوثقونه ويبينون أن السماع منه من كتابه أثبت.
فأما من بعدهم؛ فكان المتثبتون لا يكادون يسمعون من الرجل إلا من أصل كتابه كان عبد الرزاق الصنعاني ثقة حافظًا، ومع ذلك لم يسمع منه أحد بن حنبل ويحيى بن معين إلا من أصل كتابه هذا، وكان الأئمة يعتبرون حديث كل راو فينظرون كيف حدث به في الأوقات المتفاوتة فإذا وجدوه يحدث مرة كذا ومرة كذا بخلاف لا يحتمل ضعفوه. وربما سمعوا الحديث من الرجل ثم يدعونه مدة طويلة ثم يسألونه عنه. ثم يعتبر حرف مرواياته برواية من روى عن شيوخه وعن شيوخ شيوخه، فإذا رأوا في روايته ما يخالف رواية الثقات حكموا عليه بحسبها. وليسوا يوثقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط، بل معظم اعتمادهم على حاله في حديثه كما مر، وتجدهم يجرحون الرجل بأنه يخطئ ويغلط، وباضطرابه في حديثه، وبمخالفته الثقات، وبتفرده، وهلم جرا. ونظرهم عند تصحيح الحديث أدق من هذا، نعم، إن هناك من المحدثين من يسهل ويخفف، لكن العارف لا يخفى عليه هؤلاء من هؤلاء. فإذا رأيت المحققين قد وثقوا رجلًا مطلقًا فمعنى ذلك أنه