هذا لما رأوا من إحيائه الموتى مع كونه من غير أب، فكان ذلك سببًا لهذه المقالة، والأولى أن يقال: إنهم قالوا هذه المقالة؛ لكون الإنجيل وصفه تارة بابن الله، وتارة بابن الإنسان، كما رأينا ذلك في مواضع متعددة من الإنجيل، ولم يفهموا أن ذلك لقصد التشريف والتكريم، أو لم يظهر لهم أن ذلك من تحريف سلفهم لغرض من الأغراض الفاسدة.
قيل: وهذه المقالة إنما هي لبعض النصارى لا لكلهم.
وقوله:{ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} الإشارة إلى ما صدر عنهم من هذه المقالة الباطلة. وأما قوله:{بِأَفْوَاهِهِمْ} مع العلم بأن القول لا يكون إلا الفم.
ففيه وجهان: أحدهما: أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلّا لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدلّ على معان. وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب. وما لا معنى له مقول بالفم لا غير، والمقصود من الإشارة تشهير القول وتمييزه، زيادة في تشنيعه عند المسلمين.
و{بِأَفْوَاهِهِمْ} حال من القول، والمراد أنه قول لا يعدو الوجودَ في اللسان وليس له ما يحقّقه في الواقع، وهذا كناية عن كونه كاذبا؛ ولذلك قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه لم يذكر قولًا مقرونًا بذكر الأفواه والألسن، إلا وكان قولًا زورًا كقوله:{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}(آل عمران: ١٦٧)، وقوله:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}(الكهف: ٥)، وقوله:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}(الفتح: ١١)، قوله:{يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} المضاهاة: الشابهة.
والثاني: أن يراد بالقول المذهب، كقولهم: قول أبي حنيفة، يريدون مذهبه وما يقول به كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى يؤثر في القلوب، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له، لم تبق شبهة في انتفاء الولد {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أي: من قبلهم من الأمم، ضلوا كما ضل هؤلاء {قَاتَلَهُمُ