جبريل عليه السلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعًا، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنًا في نبوة صع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة، فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد، يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه السلام في اللحظة من العرش إلى مكة، ولما كان ذلك باطلًا كان ما ذكروه أيضًا باطلًا.
فإن قالوا: نحن لا نقول إن جبريل عليه السلام جسم ينتقل من مكان إلى مكان، وإنما نقول المراد من نزول جبريل عليه السلام هو زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرًا متجليًا في ذات جبريل عليه السلام.
قلنا: تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء، فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه السلام جسم وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة، وإذا كان كذلك كان الإلزام المذكور قويًا، رُوِيَ أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر قصة المعراج كذبه الكل وذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له: إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر: إن كان قد قال ذلك فهو صادق، ثم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - له تلك التفاصيل، فكلما ذكر شيئًا قال أبو بكر صدقت فلما تمم الكلام قال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله حقًّا، فقال له الرسول: وأنا أشهد أنك الصديق حقًّا، وحاصل الكلام أن أبا بكر - رضي الله عنه - كأنه قال لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا؟ .
الرابع: أن أكثر أرباب الملل والنحل يسلمون وجود إبليس، ويسلمون أنه هو الذي يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم، ويسلمون أنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم، فلما سلموا جواز مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس، فلأن يسلموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى، وهذا الإلزام قوي على من يسلم أن إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان، أما الذين يقولون