للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خِطَابِهِ، وَالثّانِي: كَقَوْلِهِ: "لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرّقُوا أَوْ غَرُّبوا" (١)، فَهَذَا لَيْسَ بِخِطَابٍ لِأَهْلِ الْمشْرِقِ وَالْمغْرِبِ وَلَا الْعِرَاقِ لِأَهْلِ الْمدِينَةِ وَمَا عَلَى سَمْتِهَا كَالشّامِ وَغَرهَا، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَخِطَاُبهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ خَاصّ بِأَهْلِ الحجَازِ مَا وَالَاهُمْ؛ إذْ كَانَ أَكْثَرُ الحمِيّاتِ الّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ الْحُمّى الْيَوْمِيّةِ الْعَرَضِيّةِ الْحَادِثَةِ عَنْ شِدّةِ حَرَارَةِ الشّمْسِ؛ وَهَذِهِ يَنْفَعُهَا الماءُ الْبَارِدُ شُرْبًا وَاغْتِسَالًا (٢).

قال ابن حجر: وَاخْتُلِفَ فِي نِسْبة الحمى إِلَى جَهَنَّم فَقِيلَ حَقِيقَة، وَاللهب الْحَاصِل فِي جِسْم الْمَحْمُوم قِطْعَة مِنْ جَهَنَّم، وَقَدَّرَ الله ظُهُورهَا بِأَسْبَابٍ تَقْتَضِيهَا لِيَعْتَبِر الْعِبَاد بِذَلِكَ، كَمَا أَنَّ أَنْوَاع الْفَرَح وَاللَّذَّة مِنْ نَعِيم الجنَّة، أَظْهَرهَا فِي هَذ الدَّار عِبْرَة وَدَلَالَة. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث أَخْرَجَهُ الْبَزَّار مِنْ حَدِيث عَائِشَة بِسَنَدٍ حَسَن، وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عِنْد أَحْمَد، وَعَنْ أَبِي رَيْحَانَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَعَنْ ابْن مَسْعُود فِي مُسْنَد الشِّهَاب "الحمَّى حَظّ المُؤْمِن مِنْ النَّار". وَقِيلَ: بَلْ الْخَبَر وَرَدَ مَوْرِد التَّشْبِيه، وَالمعْنَى أَنَّ حَرّ الْحُمَّى شَبِيه بَحْر جَهَنَّم تَنْبِيهًا لِلنّفوسِ عَلَى شِدَّة حَرّ النَّار، وَأَنَّ هَذ الحْرَارَة الشَّدِيدَة شَبِيهَة بِفَيْحِهَا وَهُوَ مَا يُصِيب مَنْ قَرُبَ مِنْهَا مِنْ حَرّهَا كَمَا قِيلَ بِذَلِكَ فِي حَدِيث الْإِبْرَاد، وَالْأَوَّل أَوْلَى وَالله أَعْلَم.

وَيُؤَيِّد هذا القَوْل إِبْن عُمَر - رضي الله عنه -: (اكشف عنا الرجز) أي: العذاب، وهذا موصول بالسند الذي قبله، وكأن ابن عمر فهم من كون أصل الحمى من جهنم، أن من أصابته عذب بها، وهذا التعذيب يختلف باختلاف محله: فيكون للمؤمن تكفيرا لذنوبه وزيادة في أجوره كما سبق، وللكافر عقوبة وانتقامًا. وإنما طلب ابن عمر كشفه مع ما فيه من الثواب لمشروعية طلب العافية من الله سبحانه؛ إذ هو قادر على أن يكفر سيئات عبده ويعظم ثوابه، من غير أن يصيبه شيء يشق عليه. (٣)


(١) البخاري (١٤٤)، مسلم (٢٦٤).
(٢) زاد المعاد ٤/ ٢٦: ٢٥.
(٣) فتح الباري ١٠/ ١٨٨: ١٨٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>