للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبعد ما ذكرنا أن الإسلام بدأ غريبًا ثم انتشر وقوي وأصبح له التمكين والعزة، بدأت تظهر علامات الغربة الثانية، حيث أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم، وأفشى بينهم فتنة الشبهات والشهوات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئًا فشيئًا؛ حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق (١).

وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الغربة وهذه الفتن، حيث قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: (في فتنة الشبهات) قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتْ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً" (٢).

وجاء عند الترمذي: "كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي" (٣).

وأما فتنة الشهوات. فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا الله، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ ! تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ" (٤).

قوله: (نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا الله) أي: نحمده ونشكره ونسأله المزيد من فضله (٥).

فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخوانًا متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق، ففتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم؛ لها يطلبون وبها يرضون، ولها يبغضون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فقطعوا بذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.


(١) كشف الكربة في وصف أهل الغربة (١/ ٣).
(٢) أبو داود (٤٥٩٦)، الترمذي (٢٦٤٠)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في الصحيحة (٢٠٣).
(٣) الترمذي (٢٦٤١)، أبو داود (٤٥٩٧)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (٣٢٢٧).
(٤) مسلم (٢٩٦٢)، ابن ماجه (٣٩٩٦).
(٥) شرح النووي (٩/ ٣٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>