وأما تفصيلات الشرائع العملية، فهي تختلف من دين لآخر، فما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وما يلائم طبيعة قوم قد لا يلائم آخرين، ولذا قال سبحانه:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}(المائدة: ٤٨)، ثم إن الكتب السماوية السابقة قد طواها الزمن، ولم يصل إلينا منها غير التوراة والإنجيل، ولم يسلما مع ذلك من التحريف والتبديل، وأما القرآن فقد كتب الله له الخلود، وحفظه من الضياع والتحريف والتبديل، فجاء مصدِّقًا لما سبقه من الكتب، مؤكدًا على الجانب الذي دعا إليه كل الأنبياء، وقامت عليه جميع الرسالات، وفي الوقت نفسه جاء مهيمنًا وحاكمًا وشاهدًا عليها، يبين ما طرأ عليها من تحريف وتغيير وتبديل، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه فهو باطل، وقد وصفه الله بهذين الوصفين بقوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}(المائدة: ٤٨).
وقد كان لاختلاط المسلمين بأهل الكتاب ومجاورتهم لهم، ودخول كثير منهم في الإسلام، أثره في نقل كثير من أخباره وإلا فإنه يشمل أخبار أهل الكتابين معًا اليهود والنصارى على حد سواء، ولعل مما أسهم في انتقال تلك الأخبار أن من منهج القرآن في سرد القصص والحوادث الاقتصار على مواضع العظة والعبرة، وعدم التعرض للتفاصيل والجزئيات، والنفوس تتشوف لمعرفة جزئيات الحوادث، وتفصيل مجملات القصص، وأخبار بدء الخلق والتكوين وما أشبه ذلك، أضف إلى ذلك وجود الإذن النبوي في التحديث عن بني إسرائيل من غير حرج، فكان بعض الصحابة - رضي الله عنهم - يسألون عن ذلك بالقدر الذي يرون أنه موضح للقصة، ومبين لما أجمل في القرآن، من غير أن يخرجوا عن دائرة الجواز والإذن النبوي.
ولكن الناس بعد ذلك توسعوا في رواية هذه الأخبار فدخلت كثير من أباطيل أهل الكتاب وخرافاتهم وترهاتهم على المسلمين، ونسب الكثير منها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإلى صحابته - رضوان الله عليهم - وإلى أئمة الإسلام، حتى اتخذها بعض المتأخرين مادة