قال الدهلوي بعد أن بيّن السؤال عن هذا تكلف ما لا يعنى:"وكانت الصحابة - رضي الله عنهم - يعدون مثل ذلك قبيحًا من قبيل تضييع الأوقات". أنهم لم يخرجوا عن دائرة الجواز التي حدّها لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذن لهم فيها بقوله:"بلغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
وفي الوقت نفسه لم يخالفوا النهي الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ..... ولا تعارض بين هذين الحديثين، فإن الأول أباح لهم أن يحدِّثوا عما وقع لبني إسرائيل من الأعاجيب لما في أخبارهم من العبرة والعظة، بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوبًا، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجيز التحدث بالكذب. وأما الحديث الثاني فالمراد منه التوقف فيما يحدّث به أهل الكتاب إذا كان محتملًا للصدق والكذب، لأنه ربما كان صدْقًا في واقع الأمر فيكذبونه، أو كذبًا فيصدقونه فيقعون بذلك في الحرج. فهذا النوع من الأخبار المحتملة للصدق والكذب هو الذي نهينا عن تصديقه أو تكذيبه، وليس المراد منه ما جاء شرعنا بموافقته أو مخالفته، فإن الموقف منه واضح ومعروف.
ومن هنا يتبين لنا أنه لا تعارض بين إذنه - صلى الله عليه وسلم - بالتحديث عن بني إسرائيل، وبين نهيه عن تصديقهم أو تكذيبهم، كما يتبين لنا القدر الذي أباحه الشارع من الرواية عن أهل الكتاب.
إذًا فالصحابة - رضي الله عنهم - كان لديهم منهج سديد، ومعيار دقيق في قبول ما يلقى إليهم من الإسرائيليات، فما وافق شرعنا قبلوه، وما خالفه كذبوه، وما كان مسكوتًا عنه توقفوا فيه. ثم إنهم لم يكونوا يرجعون إليهم في كل أمر، وإنما كانوا يرجعون إليهم لمعرفة بعض جزئيات الحوادث والأخبار، ولم يُعرف عنهم أبدًا أنهم رجعوا إليهم في العقائد ولا في الأحكام، ولو ثبت أنهم سألوا أهل الكتاب عن شيء يتعلق بالمعتقد فلم يكن ذلك عن تهوك منهم وارتياب، وإنما كان لإقامة الحجة عليهم، بالاستشهاد والتأييد لما جاء في شريعتنا، عن طريق الاحتجاج عليهم بما يعتقدون.