للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بخرافات الجاهلية التي انتقل منها، والوثنية التي نشأ عليها، وقضى قسطنطين على البقية الباقية، حتى أصبحت النصرانية مزيجًا من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية والرهبانية، اضمحلت في جنبها تعليم المسيح البسيطة كما تتلاشى القطرة من اليم، وعادت نسيجًا خشبيًا من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح، ولا تمد العقل ولا تشعل العاطفة، ولا تحل معضلات الحياة، ولا تنير السبيل، بل أصبحت بزيادات المحرفين، وتأويل الجاهلين، تحول بين الإنسان والعلم والفكر، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية، يقول (sale) مترجم القرآن إلى الانكليزية عن نصارى القرن السادس الميلادي: وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية حتى فاقوا في ذلك الكاثوليك في هذا العصر، وثارت حول الديانة في هذه الفترة حرب أهلية بين رعايا النصرانية، وانقسموا إلى فريقين الملكانية والمنوفيسية؛ أو نصارى الشام والدولة الرومية وبين نصارى مصر، فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح، وكان المنوفيسيون يعتقدون أن المسيح له طبيعة واحدة، وهي الإلهية التي تلاشت فيها طبيعة المسيح البشرية، كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له، وقد اشتد الخلاف بين الفريقين، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى، كل طائفة تقول للأخرى: إنها ليست على شيء (١).

وأما الحال الاجتماعي والاقتصادي فقد بلغ الانحلال الاجتماعي غايته في الدولة الرومية والشرقية، وعلى كثرة مصائب الرعية ازدادت الإتاوات، وتضاعفت الضرائب. حتى أصبح أهل البلاد يتذمرون من الحكومات. ويمقتونها مقتًا شديدًا، ويفضلون عليها كل حكومة أجنبية. وذابت أسس الفضيلة، وانهارت دعائم الأخلاق، حتى صار الناس يفضلون العزوبة على الحياة الزوجية ليقضوا مآربهم في حرية. وكان العدل كما يقول (سيل) يباع ويساوم مثل السلع. وكانت الرشوة والخيانة تنالان من الأمة التشجيع.

يقول جيبون: وفي آخر القرن السادس وصلت الدولة في ترديها وهبوطها إلى آخر


(١) ماذا خسر العالم (ص ٤٢ - ٤٣) بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>