ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذي تهتف إليه النفحة العلوية، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله، هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول، وينقيه من الشوائب، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية، ونزعاتها القريبة، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة، والاتجاه إلى الله وتقواه، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة.
وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها، والذين يتحدثون في هذه الأيام عن "الكبت" وأضراره، وعن "العقد النفسية" التي ينشئها الكبت والقمع، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو "الكبت" وليس هو "الضبط"، وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين: ضغط من شعوره -الذي كونه الإيحاء، أو كونه الدين أو كونه العرف- بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلًا، فهي خطيئة ودافع شيطاني! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب؛ لأنها عميقة في الفطرة؛ ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية، لا تتم إلا بها، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثًا، وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون "العقد النفسية"، فحتى إذا سلمنا جدلًا بصحة هذه النظريات النفسية؛ فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية، بين نوازع الشهوة واللذة، وأشواق الارتفاع والتسامي، وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال، ثم قال: وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان، والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه، ولا تطغى على ما سواه: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ