وبيَّن أنه لا بُدَّ من حُصُولِ الانْقِيَاد في الظَّاهِرِ والقَلْبِ، وذلك يَنْفِي صُدُورَ الخَطَإ عَنْهُم. (١)
وقال محمد رشيد رضا: أَقْسَمَ تَعَالَى بِأَنَ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَغِبُوا عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمْثَالهمْ، وَهُمْ مِنَ المُنافِقِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْإِيمَانَ زَعْمًا كَمَا تَقَدَّمَ لَا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا صَحِيحًا حَقِيقِيًّا -وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ- إِلَّا بِثَلَاثٍ:
الْأُولَى: أَنْ يحكِّمُوا الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، أَيْ: فِي الْقَضَايَا الَّتِي يَخْتَصِمُونَ فِيهَا وَيَشْتَجِرُونَ فَلَمْ يَتبَيَّنِ الْحَقُّ فِيهَا لَهُمْ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ كُلّ مِنْهُمْ، بَلْ يَذْهَبُ كُلّ مَذْهَبًا فِيهِ، فَمَعْنَى شَجَرَ: اخْتَلَفَ وَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ فِيهِ، ... وَتَحْكِيمُهُ تَفْوِيضُ أَمْرِ الحكْمِ إِلَيْهِ.
الثَّانِيَةُ: قَولهُ: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ الحْرَجُ: الضَّيقُ، وَالْقَضَاءُ: الْحُكْمُ، وَزَعَمُ بَعْضُ المُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ لَفْظَ الْقَضَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى الحكْمِ، وَهَذَا مِنْ دَعَاوِيهِمُ الَّتِي يَتَجَرَّءُونَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ وَلَا عِلْمٍ، وَالْمعْنَى: ثُمَّ تُذْعِنُ نُفُوسُهُمْ لِقَضَائِكَ وَحُكْمِكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهَا ضِيق وَلَا امْتِعَاض مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَسْبِقَ إِلَيْهَا الأَلمُ، وَالحرَجُ إِذَا خَسِرَتْ مَا كَانَتْ تَرْجُو مِنَ الْفَوْزِ، وَالحكْمِ لَهَا بِالْحَقِّ الْمخْتَصَمِ فِيهِ، عَفَا الله تَعَالَى عَنِ الحرَجِ يُفَاجِئُ النَّفْسَ عِنْدَ الصدْمَةِ الْأُولَى وجَعَلَ هَذَا الشَّرْطَ عَلَى التَّرَاخِي فَعَطَفَهُ بِـ ثُمَّ وَالْمؤْمِنُ الْكَامِلُ الْإِيمَانِ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِحُكْمِ الرَّسُولِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ الْخَيْرَ لَهُ فِيهِ، وَالسَّعَادَةَ فِي الْإِذْعَانِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ فِي إِيمَانِهِ ضَعْف مَا ضَاقَ صَدْرُهُ عِنْدَ الصدْمَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَعُودُ عَلَى نَفْسِهِ بِالذِّكْرَى وَيَنْحَى عَلَيْهَا بِاللَّوْمِ حَتَّى تَخْشَعَ وَتَنْشَرِحَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَإِيثَارِ الْحَقِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْهَوَى.
الثَّالِثَةُ: قَولهُ تَعَالَى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا التَّسْلِيمُ هُنَا: الانْقِيَادُ بِالْفِعْلِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ حَقِّيَّةَ الحكْمِ وَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ ضِيقًا مِنْهُ يَنْقَادُ لَهُ بِالْفِعْلِ وَيُنَفِّذُهُ طَوْعًا، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ مُؤَاخَذَةً فِي الدُّنْيَا.
(١) تفسير الرازي ٥/ ٢٦٩.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute