وشاور أصحابه. ولما جرت كل هذه الأمور التي لو نزل الوحي أولى الأمر لما جرت. فما كان يمنعه أن ينزله لو كان من عنده؟ .
أما لماذا تأخر الوحي طيلة هذه الفترة ولم ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا من الأدلة على أن الوحي ليس من عنده. ولعل من حكمة تأخر الوحي طيلة هذه الفترة ظهور حقيقتان للناس: الأولي: هي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج بنبوته ورسالته عن كونه بشرًا من الناس فلا ينبغي لمن آمن به أن يتصور أن النبوة قد تجاوزت به حدود البشرية فينسب إليه من الأمور أو التأثير في الأشياء ما لا يجوز نسبته إلا لله وحده.
الثانية: وهي أن الوحي الإلهي ليس شعورًا نفسيًا يتفق من كيان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أنه ليس شيئًا خاضعًا لإرادته أو تطلعه وأمنياته. إذ لو كان كذلك لكان من السهل عليه أن ينهي هذه المشكلة من يوم ميلادها ويريح نفسه من ذيولها ونتائجها. ويجعل مما يعتقد من الخير والاستقامة قرآنًا يطمئن به أصحابه المؤمنين ويسكت الآخرين من أصحاب الفضول ولكنه لم يفعل لأنه لا يملك ذلك.
ولقد كانت السيدة عائشة - رضي الله عنها - أول من تجلى له هاتان الحقيقتان حتى ذهبت في توحيدها وعبوديتها لله وحده مذهبًا أنساها ما سواه ومن سواه. فلذلك أجابت أمها حينما طلبت إليها أن تقوم فتشكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلة (لا أقوم إليه وأحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي). (١)
٣ - قال ابن القيم رحمه الله: وَأَيْضًا، فَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ حَبْسِ الْوَحْيِ شَهْرًا أَنّ الْقَضِيّةَ مُحّصَتْ وَتَمَحّضَتْ وَاسْتَشْرَفَتْ قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ أَعْظَمَ اسْتِشْرَافٍ إلَى مَا يُوحِيهِ الله إلَى رَسُولِهِ فِيهَا وَتَطَلّعَتْ إلَى ذَلِكَ غَايَةَ التّطَلّعِ فَوَافَى الْوَحْيُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَالصّدّيقُ وَأَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ وَالمُؤْمِنُونَ، فَوَرَدَ عَلَيْهِمْ وُرُودَ الْغَيْثِ عَلَى الْأَرْضِ أَحْوَجَ مَا كَانَتْ إلَيْهِ فَوَقَعَ مِنْهُمْ أَعْظَمَ مَوْقِعٍ وَألطَفَهُ وَسُرّوا بِهِ أَتَمّ السّرُورِ وَحَصَلَ لَهُمْ بِهِ غَايَةُ