والجواب عن هذه الشبهة: أن الرواية من طريق محمد بن عمر مع كونه مرسل، ومن خلال ما مر نعلم أن هذه الروايات السالفة لا تخلو من مقال ونظر، وأما الصحيح في القصة فها هو: عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حَرَّمها، فأنزل الله عزَّ وجلَّ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}؟ إلى آخر الآية. (١)
قلت: فهذا هو ما صح وما في الروايات السابقة من زيادات على هذا فهو منكر ولا أصل له صحيح، وأما توجيه هذه الرواية الصحيحة بالنسبة لما صدر من عائشة وحفصة فمن وجوه:
الأول: أن هذا من قبيل الغيرة الفطرية وكدْلك بالنسبة لحفصة -رضي الله عنها- وقد سبق الكلام عن هذه الغيرة الفطرية.
الثاني: أن الذي زاد من الغيرة أنه وقع في بيت حفصة وفي بيت عائشة على فرض صحة هذه الزيادة.
الثالث: أن مما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- دليل على مكانة حفصة، وعائشة عنده وعلى حسن عشرته لهما -صلى الله عليه وسلم-.
ثانيًا: هل هناك تناقض واضح في سبب الآية الأولى من سورة التكريم، بحيث لا يمكن الجمع بين هذه الأسباب؟ حيث ظن البعض أن كثرة الروايات لقصة المغافر يدل على أنها ملفقة لستر أمر آخر.
والرد على ذلك من وجوه:
(١) أخرجه النسائي (٧/ ٧١)، وفي الكبرى (٨٨٥٧، ١١٥٤٣) من طريق إبراهيم بن يونس بن محمد، حدثنا أبي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس به وقال: ابن حجر: (فتح الباري ٣٧٦/ ٩) إسناده صحيح، وقال الهيثم بن كليب في مسنده: حدثنا أبو قِلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحفصة: "لا تخبري أحدًا، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام". فقالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: "فوالله لا أقربها". قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة. قال فانزل الله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}، قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج، وقال ابن حجر في التلخيص بعد سوق هذه الطرق: وبمجموع هذه الطرق يتبين أن للقصة أصلًا، أحسب لا كما زعم القاضي عياض أن هذه القصة لم تأت من طريق صحيح، وغفل رحمه الله عن طريق النسائي التي سلفت فكفى بها صحة، والله الموفق. تلخيص الحبير (٣/ ١٠٩)