يعقل مَنْ مثل عمر بن الخطاب أن يحبسهم؟ وهل يكفي لحبسهم أنهم أكثروا من الرواية؟ .
إن المرء ليقف متسائلًا أمام هذا الخبر ويعتريه الشك فيه، وأن يتبادر إلى نفسه أن يتساءل عن الحد الذي يمكن أن يعرف به الإقلال والإكثار، وقد ناقش الإمام ابن حزم هذا وردَّه، وقال: هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح، ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد؛ لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث وعن تبليغ سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسلمين، وألزمهم كتمانها وجحدها وأن لا يذكروها لأحد، فهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، ولئن كان سائر الصحابة متهمين في الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فما عمر إلا واحد منهم، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلًا، ولئن كان حِسِبَهم وغيرهم متهمين لقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء، ولا بد له من أحدهما.
ثم قال: إن عمر قد حدث بحديث كثير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى عنه خمسمائة حديث ونيف، على قرب موته من موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو كثير الرواية، وليس في الصحابة أكثر رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمر بن الخطاب، ألا بضعة عشر منهم فقط.
ولو سلمنا جدلًا بصحة الرواية فهناك خلاف في المحبوسين، فالذهبي يذكر ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري، بينما ذكر ابن حزم ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا ذر، فهل تكرر الحبس من عمر؟ ولو تكرر لاشتهر، ثم إن حادثة كهذه سيطير خبرها في الآفاق من غير أن تحتمل الشك في المحبوسين؛ لأنهم من أعيان الصحابة، ولو سلمنا أن العبرة في الحادثة نفسها من حيث حبسه بعض الصحابة، دون نظر إلى أعيانهم وأشخاصهم؛ لأنهم أكثروا الرواية، قلنا: قد كان غير هؤلاء أكثر منهم حديثًا، ولم يردنا خبر عن حبسهم، فلا يعقل أن يحبس أمير المؤمنين بعضًا دون بعض في قضية واحدة هم فيها سواء، وهي كثرة الحديث، معاذ الله أن يفعل هذا عمر - رضي الله عنه -.