الفتنة لا يقع فيه هذا، وذلك قد يكون لأن اللَّه لم يأمر بالقتال ابتداء، ولكن أمر إذا اقتتلوا وبغت إحداهما على الأخرى بقتال الفئة الباغية، وقد تكون الآية أمرًا بالإصلاح وقتال الباغية جميعًا لم يأمر بأحدهما، وقد تكون الطائفة باغية ابتداء، لكن لما بغت أمر بقتالها وحينئذ لم يكن المقاتل لها قادرًا لعدم الأعوان أو لغير ذلك، وقد يكون عاجزًا ابتداء عن قتال الفئة الباغية، أو عاجزًا عن قتالٍ تفيء فيه إلى أمر اللَّه. فليس كل من كان قادرًا على القتال كان قادرًا على قتالٍ يفيء فيه إلى أمر اللَّه، وإذا كان عاجزًا عن قتالها حتى تفيء إلى أمر اللَّه لم يكن مأمورًا بقتلاها لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب، ولكن قد يظن أنه قادر على ذلك فتبين له في آخر الأمر أنه لم يكن قادرًا، فهذا من الاجتهاد الذي يثاب صاحبه على حسن القصد. وفعل ما أمر وإن أخطأ فيكون له فيه أجر ليس من الاجتهاد الذي يكون له في أجران؛ فإن هذا إنما يكون إذا وافق حكم اللَّه في الباطن.
كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران". (١) ومن الاجتهاد أن يكون ولي الأمر أو نائبه مخيرًا بين أمرين فأكثر تخيرٍ تحرٍّ للأصلح لا تخيير شهوة كما يخير الإمام في الأسرى بين القتل، والاسترقاق، والمن، والفداء عند أكثر العلماء.
فإن قوله تعالى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ليس بمنسوخ، وكذلك تخيير من نزل العدو على حكمه كما نزل بنو قريظة على حكم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فسأله حلفاؤهم من الأوس أن يمن عليهم كما من على بني النضير حلفاء الخزرج، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ألا ترضون أن أحكم فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضيت الأوس بذلك، فأرسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خلف سعد بن معاذ فجاء وهو راكب وكان تمرض من أثر جرح به في المسجد، وبنو قريظة شرقي المدينة بينهم نصف نهار أو نحو ذلك. فلما أقبل سعد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قوموا إلى سيدكم"، فقاموا وأقاربه في الطريق يسألونه أن يمن عليهم ويذكرونه بمعاونتهم ونصرهم له في الجاهلية، فلما دنا قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يحكم فيهم،