للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولو قال قائل كيف أنت؟ لقال صالح، أو بخير، أو في عافية، وأخبره عن حاله التي هو فيها، فيعلم حينئذ أن كيف مسألة عن حال المسئول عن حاله، ولو قال له: أنى يحيى اللَّه هذا الميت؟ لكان الجواب أن يقال من وجه كذا ووجه كذا، فيصف قولًا نظير ما وصف اللَّه تعالى ذكره للذي قال: {يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} فعلًا حين بعثه اللَّه بعد مماته؛ ولذلك فرقت الشعراء بين ذلك في أشعارها فقال الكميت بن زيد:

تذكر من أنى ومن أين شربة ... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل

فيجاء بـ "أنّى" للمسألة عن الوجوه، وبـ " أين" للمسألة عن المكان؛ فكأنه قال: من أي وجه ومن أي موضع راجعك الطرب؟ والذي يدل على فساد قول من تأول قول اللَّه تعالى ذكره: {حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} بـ "كيف شئتم"، أو تأوله بمعنى"حيث شئتم"، أو تأوله بمعنى "متى شئتم". أن قائلًا لو قال للآخر: أنى تأتي أهلك؟ لكان الجواب أن يقول: من قبلها أو من دبرها. وإذا كان هذا هو الجواب فمعلوم أن معنى قول اللَّه تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}: إنما هو: فأتوا حرثكم من حيث شئتم من وجوه المأتى.

وأن ماعدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل، وإذا كان ذلك هو الصحيح؛ فيتبين خطأ قول من زعم أن قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} دليل على إباحة إتيان النساء في أدبارهن. (١)

قال الطحاوي: ثم رجعنا على تأويل قول اللَّه عزَّ وجلَّ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}: فوجدنا الحرث إنما يطلب منه النسل، وكان النسل موجودًا في الوطء في الفرج ومعدومًا في الوطء في غيره؛ فدلّ أن المراد فيها هو ما أبيح منها مما يكون عنه النسل لاما لا يكون عنه النسل، وهكذا كان الفقهاء الكوفيون جميعًا يذهبون إليه في هذا الباب. (٢)


(١) تفسير الطبري (٢/ ٣٩٧ - ٣٩٨)، والبيت أنشده صاحب التاج في أبل، ونسبه إلى الكميت. يؤامر نفسه: يشاورها. والهجمة: عدد من الإبل قريب من المائة. والأبل: بكسر الباء، اسم فاعل من أبل كفرح: إذا أحسن رعية الإبل والقيام عليها.
(٢) مشكل الآثار للطحاوي (٣/ ٦٠٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>