للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عطفًا على الأول إلّا أنه صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى قوم آخرين ويقبح عندهم ما فعلوه، ويقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين اللَّه تعالى فجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعًا، وذلك تمثيل لاختلافهم فيه وتباينهم ثم توعدهم بعد ذلك بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون فهو مجازيهم على ما فعلوا. (١)

قوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} خطاب الحضور، وقوله: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} مقام الغيبة، فههنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة، وذلك يدل على المقت والتبعيد والطرد، وهو اللائق بحال هؤلاء؛ لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان اللَّه تعالى إليه بالكفران - كان اللائق به ما ذكرناه. (٢)

حكمة الالتفات هنا هي أنّ قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار، والخطاب شامل، فحَسُن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر، ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع، فلما ذكرت حالةٌ آلَ الأمرُ في آخرها إلى أنَّ الملتبسَ بها هو باغٍ في الأرض بغير الحق - عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لا يكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالةِ التي آخرها البغي. (٣)

وفائدة هذا الالتفات بيانُ أنّ الذين تكون منهم هذه الظاهرة التي تحدّث عنها النّصّ ليسوا جميع المخاطبين؛ بل هم فريق منهم، فمن الحكمة الحديث عنهم بأسلوب الحديث عن الغائب، مع ما في الحديث عن الغائب من الإعراض المشعر بالتأنيب على ما يكون


(١) المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير ٢/ ١٠، يُرجع إلى الفصل الذي عقده ابن الأثير في الالتفات وأنواعه فهو جامع ماتع.
(٢) التفسير الكبير للفخر الرازي؛ يونس: ٢٢، ١٧/ ٦٩.
(٣) البحر المحيط لأبي حيان؛ يونس: ٢٢، ٥/ ١٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>