يجعل لهم سبيلا إلى معرفة كنهه وكيفيته، وهذه أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دان؛ قد حجب عنهم معرفة كنهها وكيفيتها، وجعل لهم السبيل إلى معرفتها، والتمييز بينها، وبين أرواح البهائم، وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة، وما في الجنة والنار، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان، وشاهدته عقولهم، ولم يعرفوا كيفيته وكنهه، فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمر وأنهارًا من عسل، وأنهارًا من لبن؛ ولكن لا يعرفون كنه ذلك، ومادته وكيفيته؛ إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب، والعسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها، واللبن إلا ما خرج من الضروع، والحرير إلا ما خرج من فم دود القز، وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلا لما في الدنيا كما قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء.
ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أُخبروا به من ذلك، فهكذا الأسماء والصفات، لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا ومثالها من فهم حقائقها ومعانيها؛ بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها، وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها، وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن:
الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)} (الشورى: ١١) فنفى سبحانه المماثلة عن هذا المثل الأعلى، وهو ما في قلوب أهل سماواته، وأرضه من معرفته والإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وذاته، فهذا المثل الأعلى هو الذي آمن به المؤمنون وأنس به العارفون، وقامت شواهده في قلوبهم بالتعريفات الفطرية المكملة بالكتب الإلهية المقبولة بالبراهين العقلية، فاتفق على الشهادة بثبوته العقل والسمع والفطرة، فإذا قال المثبت: يا الله!