قام بقلبه ربًا قيومًا قائمًا بنفسه مستويًا على عرشه مكلمًا متكلمًا سامعًا رائيًا قديرًا مريدًا فعالًا لما يشاء، يسمع دعاء الداعين، ويقضي حوائج السائلين، ويفرج عن المكروبين، ترضيه الطاعات، وتغضبه المعاصي، تعرج الملائكة بالأمر إليه، وتنزل بالأمر من عنده، وإذا شئت زيادة تعريف بهذا المثل الأعلى؛ فقدِّر قوى جميع المخلوقات اجتمعت لواحد منهم، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد، فإذا نسبت قوته إلى قوة الرب تبارك وتعالى لم تجد لها نسبة وإياها ألبتة، كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد، فإذا قدَّرت علوم الخلائق اجتمعت لرجل واحد، ثم قدَّرت جميعهم بهذه المثابة، كانت علومهم بالنسبة إلى علمه تعالى كنقرة عصفور من بحر، وإذا قدَّرت حكمة جميع المخلوقين على هذا التقدير، لم يكن لها نسبة إلى حكمته، وكذلك إذا قدَّرت كل جمال في الوجود اجتمع لشخص واحد، ثم كان الخلق كلهم بذلك الجمال؛ كان نسبته إلى جمال الرب تعالى وجلاله دون نسبة السراج الضعيف إلى جرم الشمس، وقد نبهنا الله سبحانه على هذا المعنى بقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)} (لقمان: ٢٧) فقدر البحر المحيط بالعالم مدادًا، ووراءه سبعة أبحر، تحيط به كلها مداد، تكتب به كلمات الله؛ نفدت البحار، وفنيت الأقلام التي لو قدرت جميع أشجار الأرض من حين خلقت إلى آخر الدنيا ولم تنفد كلمات الله ... فهذا هو الذي قام بقلوب المؤمنين المصدقين العارفين به سبحانه من المثل الأعلى، فعرفوه به، وعبدوه به، وسألوه به، فأحبوه، وخافوه، ورجوه، وتوكلوا عليه، وأنابوا إليه، واطمأنوا بذكره، وأنسوا بحبه بواسطة هذا التعريف، فلم يصعب عليهم بعد ذلك فهم استوائه على عرشه، وسائر ما وصف به نفسه من صفات كماله؛ إذ قد أحاط عليهم بأنه لا نظير لذلك، ولا مثل له، ولم يخطر بقلوبهم مماثلته لشيء من المخلوقات، وقد أعلمهم سبحانه على لسان رسوله، أنه يقبض سماواته بيده، والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهن، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في كفه تعالى كخردلة في كف أحدكم، وأنه يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، وسائر الخلق على