الأهالي، فقسم البلاد إلى أقسام يرأس كلا منها حاكم قبطي ينظر في قضايا الناس، ويحكم بينهم، ورتب مجالس ابتدائية واستئنافية مؤلفة من أعضاء ذوي نزاهة واستقامة، وعين نوابًا من القبط، ومنحهم حق التدخل في القضايا المختصة بالأقباط، والحكم فيها بمقتضى شرائعهم الدينية والأهلية، وكانوا بذلك في نوع من الحرية والاستقلال المدني وهي ميزة كانوا قد جردوا منها في أيام الدولة الرومانية.
وضرب عمرو بن العاص الخراج على البلاد بطريقة عادلة، وجعله على أقسام في آجال معينة حتى لا يتضايق أهل البلاد، وبالجملة فإن القبط نالوا في أيام عمرو بن العاص راحة لم يروها من أزمان (١).
هكذا تعلن هذه الشهادة القبطية التي نشرتها في طبعتها الثانية مؤسسة مارمرقس لدراسة التاريخ أن الفتح الإسلامي والسماحة الإسلامية قد حررا الأرض، والضمير، والإنسان. فأصبحت حكومة مصر لنصارى مصر لأول مرة في تاريخ النصرانية المصرية، كما شملت السماحة الإسلامية العدل في الاقتصاد والاجتماع، وجعلت الحاكمية لشرائع القبط الدينية والأهلية فيما هو خاص بأحوالهم الدينية، التي تركوا فيها وما يدينون.
وحتى يحافظ الأقباط على نعمة هذا التحرير وهذه السماحة الإسلامية فلقد هبوا عندما عاد الرومان إلى احتلال الإسكندرية سنة ٢٥ هـ ٦٤٦ م: في عهد الراشد الثالث عثمان بن عفان (٤٧ ق. هـ. ٣٥ هـ ٥٣٧ - ٦٥٦ م)، هبوا إلى القتال مع الجيش المسلم ضد الرومان النصارى، وطلبوا من الخليفة إعادة عمرو بن العاص لقيادة المعركة فعاد إلى مصر واستخلص الإسكندرية ثانية من أيدي الرومان، وبعبارة صاحب كتاب "تاريخ الأمة القبطية": فإن المقوقس والقبط تمسكوا بعهدهم مع المسلمين، ودافعوا عن المدينة (الإسكندرية) ما استطاعوا؛ واجتمعت كلمة القبط والعرب على أن يطلبوا من الخليفة أن
(١) يعقوب نخلة تاريخ الأمة القبطية صـ ٥٤ - ٥٧، تقديم د/ جودت جبرة.