للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعرف النظام أصبحت منظمة، والتي لا تعرف الطاعة أصبحت مطيعة، ولكنها طاعة من نوع فريد جديد، طاعة للحق لا بالباطل، بالعدل لا بالظلم، لمن يستحق الطاعة لا لمن لا يستحقها، فكان ذلك فتحًا جديدًا في تاريخ الوعي عند الشعوب، لدرجة أن العربي الذي كان يتعصّب لقريبه وينصره وإن كان على الباطل ولا يطيع فيه أحدًا أبدًا، صار على ابن عمه إذا كان على الباطل، ويطيع فيه أبعد الناس نسبًا عنه في الحق. والذي كان أبعد الناس عن الانضباط، صار أكثرَ الناس انضباطًا، ومن قرأ تاريخ العرب في الجاهلية، عرف الفارق الكبير بين ذلك الواقع وواقعهم بعد.

وهذه أمثلة من واقعهم بعد تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيّاهم:

١ - عن عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ بن سلول أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: إنه قد بلغني أنك تريد قتلَ عبد الله بن أُبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمتَ الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالده منّي، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبيّ يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا". (١)

٢ - ولما رأى سعدُ بنُ معاذ كثرةَ استشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ظن سعدٌ أنه يستنطق الأنصار شفقًا أن لا يستحوذوا معه أو قال: أن لا يستجلبوا معه على ما يريد، فقال: لعلك يا رسول الله تخشى أن لا يكون الأنصار يريدون مواساتك. ولا يرونها حقًّا عليهم إلا بأن يروا عدُوًّا في بيوتهم وأولادهم ونسائهم. وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظْعن حيث شئت، وصِلْ حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذته منا أحب إلينا مما تركته علينا، فوالله لو سرت حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن لسرنا معك. (٢)


(١) انظر: تاريخ الطبري (٢/ ١١٠).
(٢) انظر: تاريخ الإسلام (١/ ١٨٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>