للاستئناف لغرض آخر، لا لإبطال الأول؛ وهو مردود بما سبق وبقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦)} [الأنبياء: ٢٦]، فأضرب بها عن قولهم وأبطل كذبهم. وقوله:{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}[الشعراء: ١٦٦] إن أضرب بها عن حقيقة إتيانهم الذكور وترك الأزواج. ومنه قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}[الطلاق: ٢].
ومنه تكرار القصص في القرآن كقصة إبليس في السجود لآدم، وقصة موسى وغيره من الأنبياء. قال بعضهم: ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعًا من كتابه. قال ابن العربي في "القواصم": ذكر الله قصة نوح في خمسة وعشرين آية، وقصة موسى في سبعين آية؛ وإنما كررها لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر وهي أمور:
أحدها: أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا، ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى - عليه السلام - وذكرها في موضع آخر ثعبانًا، ففائدته أن ليس كل حية ثعبانًا، وهذه عادة البلغاء أن يكرر أحدهم في آخر خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة.
الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن، ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين، وكان أكثر من آمن به مهاجريًا فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى آخرين، وكذلك سائر القصص، فأراد الله سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها فيكون فيه إفادة القوم وزيادة تأكيد وتبصرة لآخرين وهم الحاضرون، وعبر عن هذا ابن الجوزي وغيره.
الثالثة: تسليته لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم قال تعالى:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[هود: ١٢٠].
الرابعة: إن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة.
الخامسة: أن الدواعي لا تتوفر على نقلها كتوفرها على نقل الأحكام، فلهذا كررت القصص دون الأحكام.