للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره. فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣)} (١).

وروى البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - ومسلم عن عبد الله بن الصامت واللفظ لمسلم: أن أنيسًا أخا أبي ذرٍّ، قال لأبي ذرٍّ: لقيت رجلًا بمكة على دينك. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أَقْرَاءِ الشعر، فما يلتئم على لسان أحد بعدى أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.

وفي رواية البخاري: فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلاما ما هو بالشعر (٢).

وروى مسلم أن ضماد بن ثعلبة الأزدي قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس البحر (٣).


(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/ ٥٥٠، والبيهقي في شعب الإيمان ١/ ١٥٦، ودلائل النبوة ٢/ ١٩٨، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية صـ ١٥٨.
(٢) رواه البخاري (٣٦٤٨)، ومسلم (٦٥١٣)، (٦٥١٦).
يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير ٢٣/ ٦٢: لقد ظهرت حكمة علام الغيوب في ذلك؛ فإن المشركين لما سمعوا القرآن ابتدروا إلى الطعن في كونه منزّلًا من عند الله بقولهم في الرسول: هو شاعر، أي أن كلامه شعر حتى أفاقهم من غفلتهم عقلاؤهم مثل الوليد بن المغيرة، وأُنيس بن جُنادة الغفاري، وحتى قرعهم القرآن بهذه الآية: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)} وبعد هذا، فإن إقامة الشعر لا يَخلو الشاعر فيها من أن يتصرف في ترتيب الكلام تارات بما لا تقضيه الفصاحة مثل ما وقع لبعض الشعراء من التعقيد اللفظي، ومثل تقديم وتأخير على خلاف مقتضى الحال فيعتذر لوقوعه بعذر الضرورة الشعرية، فإذا جاء القرآن شعرًا قصَّر في بعض المواضع عن إيفاء جميع مقتضى الحال حقّه.
(٣) صحيح مسلم (٨٦٨). قال النووي في شرح مسلم (٦/ ١٥٧): ضبطناه بوجهين أشهرهما: ناعوس بالنون والعين هذا هو الموجود في أكثر نسخ بلادنا، والثاني: قاموس بالقاف والميم، . . .، وقال أبو عبيد: قاموس البحر: وسطه، وقال بن دريد: لجته، وقال صاحب كتاب العين: قعره الأقصى، وقال الحربي قاموس البحر: قعره، وقال أبو مروان بن سراج: قاموس فاعول من قمسته إذا غمسته، فقاموس البحر: لجته التي تضطرب أمواجها ولا تستقر مياهها، وهي لفظة عربية صحيحة.

<<  <  ج: ص:  >  >>