للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي قصة عتبة بن ربيعة حين جاء يفاوض النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يترك دعوته، ويعرض عليه المال والملك والسلطان، فقرأ عليه - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من القرآن، فلما رجع إلى قومه وجلسوا إليه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني والله قد سمعت قولًا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تُصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم (١).

بل إن العرب عجزت والتزمت الصمت وما انبست لها شفة، ولا قالوا مثلا: قد كان يمكن لفصحائنا القدماء أن يأتوا بمثل هذا القرآن إنما علموا أن ذلك ليس من قبيل الكلام المعروف.

يقول الجاحظ: وهو يذكر إعجازَ القرآن: ولو أن رجلًا قرأ على رجلٍ منْ خُطبائِهم وبلغائِهم سورةً قصيرةً أو طويلةً؛ لتبيَّنَ له في نظامِها ومَخْرجها منْ لفظِها وطابَعِها أنه عاجزٌ عن مثلِها، ولو تَحدَّى بها أَبْلَغَ العربِ لأظهرَ عجزَه عنها. (٢)

ويقول عبد القاهر الجرجاني: المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف، وطبائعهم التي لا تَتبَدَّل، أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة وهم يجدون سبيلًا إلى دفعها، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم كيف، وإن الشاعر أو الخطيب أو الكاتب يبلغه أنَّ بأقصى الإقليم الذي هو فيه من يَبْأَى بنفسه (٣)، ويُدِلُّ بشعرٍ يقوله، أو


(١) دلائل النبوة للبيهقي ٢/ ٧٩، السيرة النبوية لابن هشام (١/ ٢٩٣).
(٢) رسائل الجاحظ ٣/ ٢٢٩، وانظر البيان والتبيين للجاحظ ٣/ ٢٩.
(٣) (بأى عليه يبأى بأوًا): فخر عليه وأظهر الكبر. لسان العرب (١٤/ ٦٣، مادة: بأي).

<<  <  ج: ص:  >  >>