للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول عبد القاهر الجرجاني: يقول ابنُ مسعودٍ في صفةِ القرآن: "لا يَتْفَهُ ولا يَتَشانُّ" (١) وقال: "إِذا وقعتُ في آلِ حم وقعتُ في رَوضات دَمِثاتٍ أتأنَّقُ فيهم" أي أَتتبَّع محاسنَهن. قال ذلك من أجلِ أوزان الكلمات ومن أجل الفواصلِ في أواخرِ الآيات (٢).

السابع: أن كل من قال شعرًا فصيحًا في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول، وفي القرآن التكرار الكثير ومع ذلك كل واحد منها في نهاية الفصاحة بل ولم يظهر التفاوت أصلًا.

الثامن: أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة وأمثال هذه الكلمات توجب تقليل الفصاحة؛ لذا يبتعد الشعر عنها وتقل في الشعر الجاهلي خاصةً.

التاسع: مما يقوله القاضي عياض: ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته، وهي على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ويزيدهم نفورًا، ويودون انقطاعه لكراهتهم له، وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته تُولِيه انجذابًا ليل قلبه إليه وتصديقه به، قال الله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ


ويقول الفخر الرازي في التفسير الكبير ٢/ ١١٦: إنهم قالوا: إن شعر امرئ القيس يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل، وشعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند المطلب ووصف الخمر، وشعر زهير عند الرغبة والرجاء، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فن فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن، أما القرآن فإنه جاء فصيحًا في كل الفنون على غاية الفصاحة ألا ترى أنه سبحانه وتعالى قال في الترغيب: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: ١٧] وقال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: ٧١] وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} الآيات [الإسراء: ٦٨].
(١) هذا الأثر في مسند الإمام أحمد ١/ ٤٠٥ من حديث طويل: (إن هذا القرآن لا يختلف، ولا يستشن ولا يتفه لكثرة الرد) وذكر هذا الأثر بهذا اللفظ أبو عبيد القاسم بن سلام في (غريب الحديث) ٣/ ١٥٣، ٤/ ٥٥. و (يتشان): لا يخلق، وهو مأخوذ من (الشن) وهو الجلد الخلق البالي. و (يستشن): يصير شنا باليا. و (يتفه) من الشيء (التافه)، أي لا يبتذل حتى يلحق بالخسيس.
(٢) دلائل الإعجاز صـ ٣٨٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>