للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: ٢٣]، وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢]، فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبأن عليه الاختلال.

ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور، فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح، ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين، ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ ومنهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل أو سير الليل أو وصف الحرب أو وصف الروض أو وصف الخمر أو الغزل أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتناوله الكلام ولذلك ضُرِبَ المَثَلُ بِامرِئِ القَيسِ إِذَا رَكِبَ والنابغةِ إذا رَهِبَ وبِزُهَيرٍ إذا رَغِبَ ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام.

ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها فيأتي بالغاية في البراعة في معنى فإذا جاء إلى غيره قَصُرَ عنه ووَقَفَ دُونَه، . . .، ثم نجد من الشعراء من يجود في الرجز ولا يمكنه نظم القصد أصلًا ومنهم من ينظم القصيد ولكن يقصر تقصيرًا عجيبًا، . . .، ومن الناس من يجود في الكلام المرسل فإذا أتى بالموزون قَصَّرَ وَنَقَصَ نُقْصَانا بَيِّنا ومنهم من يوجد بضد ذلك.

وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا، وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة؛ فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتًا بينًا ويختلف اختلافًا كبيرًا، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة؛ فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت؛ بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة؛ فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر (١).


(١) إعجاز القرآن لأبي بكر الباقلاني من صـ ٣٥: ٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>