للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه اللغة التي لم تعبر حتى تلك اللحظة - قبيل الرسالة - إلا عن ذكاء بدو الصحراء، تحتاج بقدر ما أن تثري لكي تشبع رغبات عقل واجهته - منذ ذلك الحين - المشاكل الغيبية والشرعية والاجتماعية بل العلمية أيضًا. (١)

العاشر: مما يقوله القاضي عياض: ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضا، وحسن ائتلاف أنواعها والتئام أقسامها، وحسن التخلص من قصة إلى أخرى، والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ونهى، وخبر واستخبار، ووعد ووعيد، وإثبات نبوة وتوحيد وتفريد، وترغيب وترهيب إلى غير ذلك من فوائده دون خلل يتخلل فصوله. والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته، ولانت جزالته، وقل رونقه، وتقلقلت ألفاظه؛ فتأمل أول (ص) وما جمع فيها من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم، وما ذكر من تكذيبهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وتعجبهم مما أتى به والخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر، وما ظهر من الحسد في كلامهم وتعجيزهم وتوهينهم ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة، وتكذيب الأمم قبلهم، وإهلاك الله لهم، ووعيد هؤلاء مثل مصابهم، وتصبير النبي - صلى الله عليه وسلم - على أذاهم وتسليته بكل ما تقدم ذكره، ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء، كل هذا في أوجز كلام وأحسن نظام (٢).

الحادي عشر: مما يقوله أبو بكر الباقلاني: كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بينا في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع، ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وُصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه؛ حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه وحسن وصفه في الخروج من النسيب إلى المديح، وأطبقوا على أنه لا يحسنه، ولا يأتي فيه بشيء، وإنما اتفق له في مواضع معدودة خُروجٌ يُرْتَضَى، وتَنَقُّلٌ يُسْتَحْسَنُ، أما القرآن فإنه على اختلاف فنونه، وما يتصرف


(١) الظاهرة القرآنية صـ ١٩١.
(٢) الشفا ١/ ٢٨٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>