للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيه من الوجوه الكثيرة، والطرق المختلفة يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد، وهذا أمر عجيب تبين به الفصاحة، وتظهر به البلاغة، ويخرج معه الكلام عن حد العادة ويتجاوز العرف (١).

الثاني عشر: إنه لا يزال الناس قديما وحديثا إذا سُرُّوا مِن كلامٍ أو أسلوبٍ وأعجبهم جماله حَاكُوه وقَلَّدُوه.

يقول الباقلاني: الناس إذا استحسنوا شيئًا اتبعوه، وتنافسوا في محاكاته بباعث الجبلة. وكذلك رأينا أصحاب هذا الصناعة يتبع بعضهم بعضا فيما يستجيدونه من الأساليب، وربما أدركَ اللَّاحِقُ السَّابِقَ وأَرْبَى عليه، كما صنع ابن العميد بأسلوب الجاحظ، وكما يصنع الكتاب والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض. وما أساليب الناس على اختلاف طرائقها في النثر والشعر إلا مناهل مورودة، ومسالك معبدة، تؤخذ بالتعلم، وتراض الألسنة والأقلام عليها بالمرانة، كسائر الصناعات.

فما الذي منع الناس أن يخضعوا أسلوب القرآن لألسنتهم وأقلامهم، وهم شرع في استحسان طريقته، وأكثرهم الطالبون لإبطال حجته؟

وما ذاك إلا لأن فيه من غريب تأليفه في بنيته، وما اتخذه في رصف حروفه وكلماته وجُمله وآياته، من نظام له سمتٌ وحده، وطابع خاص به، خرج فيه عن هيئة كل نظام تعاطاه الناس أو يتعاطونه. فلا جرم لم يجدوا له مثالًا يحاذونه به، ولا سبيلًا يسلكونه إلى تذليل منهجه. يقول ابن عطية: لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد.

وآية ذلك أن أحدًا لو حاول أن يدخل عليه شيئًا من كلام الناس من السابقين منهم أو اللاحقين، من الحكماء أو البلغاء أو النبيين والمرسلين؛ لأفسد بذلك مزاجه في فم كل قارئ، ويجعل نظامه يضطرب في أذن كل سامع، وإذًا لنادى الداخل على نفسه بأنه واغل


(١) إعجاز القرآن صـ ٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>