همهم أن يدرءوا عن أنفسهم معرة السكوت والإفحام بأي صورة تتفق لهم من صور الكلام بالصدق أو بالكذب؟ ومن هو ذلك البشر الذي قالوا أنه يعلمه؟
ما اجترءوا أن ينسبوا هذا التعليم لواحد منهم؟ كلا فقد رأوا أنفسهم أوضح جهل من أن يعلموا رجلًا جاءهم بما لم يعرفوا ولا آباؤهم. . . وجدوا أنفسهم مضطرين أن يلتمسوا شخصًا يتحقق فيه شرطان: أحدهما: أن يكون من سكان مكة نفسها لتروج عنهم دعوى أنه يلاقيه ويملي عليه بكرةً وأصيلًا (١).
وثانيهما: أن يكون من غير جلدتهم وملتهم ليمكن أن يقال إن عنده علم ما لم يعلموا. وقد التمسوا هذه الأوصاف فوجدوها، أتدري أين وجدوها؟ . . في حداد رومي! !
نعم وجدوا في مكة غلامًا تعرفه الحوانيت والأسواق، ولا تعرفه تلك العلوم في قليل ولا كثير. غير أنه لم يكن أميًا ولا وثنيًا مثلهم، بل كان نصرانيًا يقرأ ويكتب. فكان من أجل ذلك خليقًا في زعمهم أن يكون أستاذًا لمحمد، وبالتالي لعلماء اليهود والنصارى والعالم أجمعين، ولئن سألتهم هل كان ذلك الغلام فارغًا لدراسة الكتب وتمحيص أصيلها من دخيلها، ورد متشابهها إلي محكمها؟ وهل كان مزودًا في عقله ولسانه بوسائل الفهم والتفهيم؟ . . . لعرفت أنه كان حدادًا منهمكًا في مطرقته وسندانه، وأنه كان عامي الفؤاد لا يعلم الكتاب إلا أماني، أعجمي اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة لا يعرفها محمد ولا أحد من قومه. لكن ذلك كله لم يكن ليحول بينه وبين لقب الأستاذية الذي منحوه إياه على رغم أنف الحاسدين! وهكذا فمن ضاقت به دائرة الجد، لم يسعه إلا فضاء الهزل، وهكذا أمعنوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل، فكان مثلهم كمثل من يقول: إن العلم يستقي من الجهل، وإن الإنسان يتعلم كلامه من الببغاء! وكفى بهذا هزيمة وفضيحة لقائله {لِسَانُ الَّذِي
(١) لقد كان كفار قريش يُحْكِمون الكَذِبَ لِيروجَ عَنْهم، فكانوا أَسَدَّ رأيًا وأحكمَ عَقْلًا مِنْ مُسْتشرقي عصرنا، إذ لم يستجيبوا لنداء الفطرة والعقل فيكونوا مع حزب الله المؤمنين ولم يقتدوا بالقرشيين الكاذبين، فأصبحوا أضحوكة للعالمين ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا.