ظهر له أمر كان خافيًا عليه، وما نشأ له رأي جديد كان يفقده من قبل؛ إنما كان سبحانه يعلم الناسخ والمنسوخ أزلًا من قبل أن يشرعهما لعباده؛ بل من قبل أن يخلق الخلق ويبرأ السماء والأرض، إلا أنه جلت حكمته علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم، وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء في هذا الميقات المعلوم منوطا بحكمة وبمصلحة أخرى، ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحوالهم، وأن الأحكام وحكمها والعباد ومصالحهم والنواسخ والمنسوخات كانت كلها معلومة لله من قبل، ظاهرة لديه لم يخف شيء منها عليه، والجديد في النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده، لا ظهور ذلك له على حد التعبير المعروف: شؤون يبديها ولا يبتديها، وما كان ربك نسيًا.
اجتمعت اليهود والرافضة على هذه الضلالة، ضلالة استلزام النسخ للبداء؛ لكنهم افترقوا بعد ذلك إلى ناحيتين خطيرتين: فاليهود أنكروا النسخ وأسرفوا في الإنكار لاستلزامه في زعمهم البداء وهو محال، وسنناقشهم الحساب فيما بعد إن شاء الله. أما الرافضة فأثبتوا النسخ ثم أسرفوا في إثبات هذا البداء اللازم له في زعمهم ونسبوه إلى الله في صراحة ووقاحة سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا (١).
قال الغزالي: - في معرض الرد على منكري النسخ وأنه يستلزم البداء:
وأما الجواب عن الخامس وهو لزوم البداء، فهو فاسد؛ لأنه إن كان المراد أنه يلزم من النسخ أن يحرم ما أباح، وينهى عما أمر فذلك جائز {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} ولا تناقض فيه، كما أباح الأكل بالليل وحرمه بالنهار، وإن كان المراد أنه انكشف له ما لم يكن عالما به فهو محال، ولا يلزم ذلك من النسخ؛ بل يعلم الله تعالى أنه يأمرهم بأمر مطلق، ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم، ثم يقطع التكليف بنسخه عنهم، فينسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه، وليس فيه تبين بعد جهل.