ثم نقول: إن من قال: إن الله تعالى إنما يلزمنا أخف الأشياء: فإنه يلزمه إسقاط الشرائع كلها؛ لأنها كلها ثقال بالإضافة إلى ترك عملها، والاقتصار على عمل جزء من كل عمل منها، وهذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة.
فصار قول من خالفنا مؤديًا إلى الخروج عن الإسلام جملة، ولا عمل في الدنيا إلا وفيه كلفة ومشقة. وقد قال الشاعر:
هل الولد المحبوب إلا تعلة ... وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل
وفي الأكل والشرب مشقة، فلو أن الإنسان يصل إلى ذوق الطعوم المستطابة والشبع، دون تكلف تناول ومضغ وبلع، لكان أخف عليه وأقل مشقة وأيسر غررا، فرب مختنق بأكله كان في ذلك حتفه، أو الإشراف على الحتف.
ورب متأذ بما يدخل من ذلك في جوفه، وبما يدخل بين أضراسه، ومغث لمعدته فيتقيأ فيألم لذلك، ومن ملوث لثوبه بما يسقط من يده ولو تتبعنا ما في اللذات من عسر ومشقة لطال ذلك جدا، فكيف بالأعمال المكلفة.
ولكن العسر والمشقة تتفاضل، فإنما رفع الله - عز وجل - عنا في بعض المواضع ما لا نطيق، وخفف تعالى في بعضها تخفيفا أكثر من تخفيف آخر.
وقد جاء في الأثر:"حُفت الجنة بالمكاره" فبطل بهذا الحديث نصًا قول من قال: إن الله تعالى لا ينسخ الأخف بالأثقل.
وصح أن الله تعالى يفعل ما يشاء فينسخ الأخف بالأثقل، والأثقل بالأخف، والشيء بمثله، والشيء بإسقاطه جملة، ويزيدنا شريعة من غير أن يخفف عنا أخرى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل.
فإن اعترضوا بقوله تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ}، فهذه حجة عليهم بينة لا محيد عنها؛ لأن التخفيف لا يكون إلا بعد تثقيل، فإذا ثقل علينا تعالى أولا فما الذي يمنع من أن يثقل علينا آخرا إن شاء.