وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير؛ فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك، أولها ما ننسخ أو نؤخر إنزاله، والثاني ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته، والثالث: ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه، والرابع: ما ننسخ أو نؤخره مثبتًا لا ننسخه، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض، لكن ذكرنا جميعها؛ لأنها تحتمل، وقد قال "جميعها" العلماء إما نصًا وإما إشارة فكملناها.
وقال الزجاج: إن القراءة "أو نُنْسِها" بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك؛ لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك، وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه؛ لأنه بمعنى نجعلك تتركها، وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر، وقال: إن هذا لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نسي قرآنًا، وقال أبو علي وغيره: ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسئة، واحتج الزجاج بقوله تعالى:{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}[الإسراء: ٨٦] أي لم نفعل، قال أبو علي معناه لم نذهب بالجميع.
قال ابن عطية: على معنى إزالة النعمة كما توعد، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج، ورد عليه، والصحيح في هذا أن نسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الله، تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآنًا جائز.
فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر؛ لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال: أفي القوم أبيّ؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: فلم لم تذكرني؟ قال: حسبت أنها رفعت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لم ترفع ولكني نسيتها (١).