والإجابة هنا تشهد لابن مجاهد ولا تشهد عليه، ذلك أن اختياره الوحيد الذي خالف فيه القاعدة التي وضعها لنفسه يدل على أنه ليس من ذلك النوع من البشر الذي يسير مغمض العينين ومغيب العقل على القواعد، إذ لكل قاعدة استثناء، فلقد أكد ابن مجاهد أنه كان ينشد الحق أينما وُجد، فإن وافق اختيار الناس، وإلا فهو يختار لهم. وهذا عين ما حدث عند اختياره لقراءة عاصم، فلقد أدرك - وهو الخبير بالقراءات - فضل هذه القراءة الذي لا يُنكر، ثم بحث في أسباب انصراف غالب أهل الكوفة عنها، فوجدها أسبابًا ذاتية غير موضوعية، ذلك أن الإمام العظيم عاصم بن أبي النجود كان إذا تكلم كاد يدخله خيلاء، فلعل هذا ما جعل العامة ينصرفون عن قراءته، فإذا أضفنا إلى هذا السبب أن شعبة وهو أحد راويي عاصم، والذي كان الناس في الكوفة يأتمون بروايته عن عاصم، كان هو الآخر لا يكاد يمكن نفسه من أرادها منه، ووصل إلى أن الناس لم ينكروا لقراءة عاصم فضلها، إلا أنهم حين سعوا إليها وجدوا نوعًا من الاستعلاء ربما جرح كبرياءهم فانصرفوا عنها إلى غيرها غير منكرين لفضلها. من هنا اعتبر ابن مجاهد انصراف أهل الكوفة عن قراءة عاصم لقراءة حمزة. . . . . وأن عاصم كان يتمتع بذاكرة حافظة ليس لها نظير، قال عاصم: مرضت سنتين، فلما قرأت القرآن فما أخطأت حرفًا. إذا علمنا ذلك كله أدركنا السر وراء تمسك ابن مجاهد بقراءة عاصم - خلافًا لقاعدة الشهرة - فأثبت أنه كان عقلًا فذًا مستقلًا. (إعجاز القراءات القرآنية ٧٥: ٧٧).