والتدافع بين معاني القرآن وتعاليمه مع ثبوت التنويع في وجوه التلفظ والأداء السابق، ومعنى ذلك أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يلزم منه تناقض، ولا تخاذل، ولا تضاد، ولا تدافع بين مدلولات القرآن ومعانيه، وتعاليمه ومراميه بعضها مع بعض؛ بل القرآن كله سلسلة واحدة متصلة الحلقات، محكمة السور والآيات، متآخذة المبادئ والغايات مهما تعددت طرق قراءته، ومهما تنوعت فنون أدائه (١).
ولابن الجزري كلام نفيس يتصل بهذا الموضوع قال: وأما حقيقة اختلاف هذه السبعة الأحرف المنصوص عليها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفائدته؛ فإن الاختلاف المشار إليه في ذلك اختلاف تنوع وتغاير، لا اختلاف تضاد وتناقض؛ فإن هذا محال أن يكون في كلام الله تعالى، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢)}، وقد تدبرنا اختلاف القراءات كلها فوجدناها لا تخلو من ثلاثة أحوال:
(أحدها) اختلاف اللفظ والمعنى واحد. (الثاني) اختلافهما جميعًا مع جواز اجتماعهما في شيء واحد. (الثالث) اختلافهما جميعًا مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد؛ بل يتفقان من وجه آخر لا يقتضي التضاد.
فأما الأول: كالاختلاف في (الصراط، وعليهم، ويؤده، والقدس، ويحسب) ونحو ذلك مما يطلق عليه أنه لغات فقط.
وأما الثاني: فنحو (مالك، وملك) في الفاتحة؛ لأن المراد في القراءتين هو الله تعالى؛ لأنه مالك يوم الدين وملكه، وكذا (يكذبون، ويكذبون) لأن المراد بهما هم المنافقون؛ لأنهم
(١) مناهل العرفان في علوم القرآن ١/ ١٨٥، وتاريخ القرآن الكريم لمحمد طاهر الكردي ١/ ٨٣، وقال الكردي: فاختلاف هذه الأحرف إنما هو اختلاف ألفاظ وتلاوة، لا اختلاف معان موجبة لاختلاف أحكامه (مثال ذلك) ما رواه ابن فارس بسنده عن هانئ قال: كنت عند عثمان - رضي الله عنه - وهم يعرضون المصاحف فأرسلني بكتف شاة إلى أبى بن كعب فيها "لم يتسن" و"فأمهل الكافرين" و"لا تبديل للخلق" قال فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين وكتب "لخلق الله" ومحا فأمهل وكتب "فمهل" وكتب "لم يتسنه" ألحق فيها هاء والقراءة في المصاحف على هذا الإصلاح.