قولوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مما علمهم - جلّ ذكره - أن يقولوه ويَدينُوا له بمعناه، وذلك موصول بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكأنه قال: قولوا هذا وهذا.
فإن قال: وأين قوله: (قولوا)، فيكونَ تأويلُ ذلك ما ادَّعَيْتَ؟ .
قيل: قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها - إذا عرفتْ مكان الكلمة، ولم تَشكَّك أنّ سامعها، يعرف بما أظهرت من منطقها، ما حذفت - حذفُ ما كفى منه الظاهرُ من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حُذفت، قولا أو تأويلَ قولٍ، كما قال الشاعر:
وأَعْلَمُ أَنَّنِي سَأَكُونُ رَمْسًا ... إذَا سَارَ النَّوَاعِجُ لا يَسِيرُ
فَقَالَ السَّائِلون: لِمَنْ حَفَرْتُمْ ... فَقَالَ المُخْبِرُون لَهُمْ: وزيرُ
قال أبو جعفر: يريد بذلك، فقال المخبرون لهم: الميِّتُ وزيرٌ، فأسقَط الميت، إذ كان قد أتى من الكلام بما دلّ على ذلك. وكذلك قول الآخر:
وَرأَيتِ زَوْجَكِ في الوغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا
وقد علم أنّ الرمح لا يُتَقَلَّد، وإنما أراد: وحاملًا رمحًا، ولكن لما كان معلومًا معناه، اكتفى بما قد ظَهر من كلامه، عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للمسافر إذا ودَّعوه: "مُصاحَبًا مُعافًى"، يحذفون "سر، واخرج"، إذ كان معلومًا معناه، وإن أسقط ذكره.
فكذلك ما حُذف من قول الله - عز وجل -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لمَّا عُلم بقوله - عز وجل -: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ما أراد بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، من معنى أمره عبادَه، أغنتْ دلالةُ ما ظُهِر عليه من القول عن إبداء ما حُذف. اهـ (١)
٢ - ومما يؤكد صحة ما قاله الطبري ما قاله البقاعي:
قال: ومن أنفع الأمور في ذوق هذا المشرب استجلاء الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(١) تفسير الطبري (١/ ١٣٩ - ١٤١).