للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني: في زاد عليها في الحجم، كأنه قصد بذلك ردّ ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت؛ لأنهما أكبر من البعوضة، كما تقول لصاحبك - وقد ذمّ من عرفته يشح بأدنى شيء - فقال: فلان بخل بالدرهم والدرهمين: هو لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه تريد بما فوقه ما بخل فيه وهو الدرهم والدرهمان كأنك قلت: فضلًا عن الدرهم والدرهمين. (١)

ولقد أحسن ابن عاشور فقال: وأصل فوق، اسم للمكان المعتلي على غيره فهو اسم مبهم فلذلك كان ملازمًا للإضافة؛ لأنه تتميز جهته بالاسم الذي يضاف هو إليه، فهو من أسماء الجهات الملازمة للإضافة لفظًا أو تقديرًا، ويستعمل مجازًا في المتجاوز غيره في صفة تجاوزًا ظاهرًا تشبيهًا بظهور الشيء المعتلي على غيره على ما هو معتل عليه، ففوق في مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة؛ سواء كانت من المحامد أو من المذام، يقال: فلان خسيس وفوق الخسيس، وفلان شجاع وفوق الشجاع، وتقول: أُعطِيَ فلان فوق حقه أي زائدًا على حقه، وهو في هذه الآية صالح للمعنيين؛ أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجمًا، ونظيره قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة" (٢)، يحتمل أقل من الشوكة في الأذى مثل نَخْبة النملة كما جاءَ في حديث آخر، أو ما هو أشد من الشوكة مثل الوخز بسكين، وهذا من تصاريف لفظ فوق في الكلام ولذلك كان لاختياره في هذه الآية دون لفظ أقل ودون لفظ أقوى مثلًا موقع من بليغ الإيجاز (٣).

* * *


(١) الكشاف (١/ ٧١ - ٧٢).
(٢) رواه مسلم (٢٥٧٢).
(٣) التحرير والتنوير (١/ ١٨٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>