لهم فيه، وها هنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا؛ قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها، فقالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الآية، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؛ أي: نصلي لك كما سيأتي؛ أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبًا لهم عن هذا السؤال:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم (١).
ثم أظهر سبحانه من علمه وحكمته الذي خفي على الملائكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعرفونه بأن جعل من نسله من أوليائه، وأحبائه، ورسله، وأنبيائه، من يتقرب إليه بأنواع التقرب، ويبذل نفسه في محبته ومرضاته، يسبح بحمده أناء الليل وأطراف النهار، ويذكره قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه، ويعبده ويذكره ويشكره في السراء والضراء، والعافية والبلاء، والشدة والرخاء، فلا يثنيه عن ذكره وشكره وعبادته شدة، ولا بلاء، ولا فقر، ولا مرض، ويعبده مع معارضة الشهوة، وغلبات الهوى، وتعاضد الطباع لأحكامها، ومعاداة بني جنسه وغيرهم له، فلا يصده ذلك عن عبادته، وشكره، وذكره، والتقرب إليه، فإن كانت عبادتكم لي بلا معارض ولا ممانع فعبادة هؤلاء لي مع هذه المعارضات والموانع والشواغل.
٢ - وأيضًا فإنه سبحانه أراد أن يظهر لهم ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر، فذلك الخير وهذا الشر كامن في نفوس لا يعلمونها، فلا بد من إخراجه وإبرازه لكي يعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به.
(١) تفسير ابن كثير (١/ ٣٣٧)، وانظر: تفسير الطبري (١/ ٤٧٠) فإنه رجح هذا القول وانتصر له، تفسير البغوي (١/ ٣١)، التحرير والتنوير (١/ ٣٨٨).