للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣ - وأيضًا فإنه سبحانه لما خلق خلقه أطوارًا وأصنافًا، وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وبنيه على كثير ممن خلق تفضيلًا، جعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم، وكانت العبودية أفضل أحوالهم وأعلى درجاتهم، أعني: العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعًا واختيارًا لا كرهًا واضطرارًا، ولهذا أرسل الله جبريل إلى سيد هذا النوع الإنساني يخيره بين أن يكون عبدًا رسولًا أو ملكًا نبيًا، فاختار بتوفيق ربه له أن يكون عبدًا رسولًا، وذكره سبحانه بأتمَّ العبودية في أشرف مقاماته وأفضل أحواله؛ كمقام الدعوة، والتحدي، والإسراء، وإنزال القرآن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: ١٩]، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: ٢٣]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: ١]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: ١]، فأثنى عليه ونوه الله لعبوديته التامة له، ولهذا يقول أهل الموقف حين يطلبون الشفاعة: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله؛ وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا يحصل إلا بها كان من أعظم الحكمة أن أُخرجوا إلى دار تجري عليهم فيها أحكام العبودية، وأسبابها، وشروطها، وموجباتها، فكان إخراجهم من الجنة تنكيلًا لهم وإتمامًا لنعمته عليهم؛ مع ما في ذلك من محبوبات الرب تعالى، فإنه يحب إجابة الدعوات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، ومغفرة الزلات، وتكفير السيئات، ودفع البليات، وإعزاز من يستحق العز، وإذلال من يستحق الذل، ونصر المظلوم، وجبر الكسير، ورفع بعض خلقه على بعض وجعلهم درجات؛ ليعرف قدر فضله وتخصيصه فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار يحصل فيها محبوباته سبحانه، وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها، فالوقوف على الشيء لا بد منه، وإيجاد لوازم الحكمة من الحكمة، كما أن إيجاد لوازم العدل من العدل (١).

ولو قدر أنه على وجه الاعتراض فهو دليل على علمهم أنه لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، فلما رأوا


(١) شفاء العليل لابن القيم (١/ ٢٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>