توضح مقام الألوهية ومقام العبودية، فالعبيد جميعًا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، يقفون مقام العبد الخاشع الخاضع الذي لا يقدم بين يدي ربه ولا يجرؤ على الشفاعة عنده إلا بعد أن يؤذن له؛ فيخضع للإذن ويشفع في حدوده، وهم يتفاضلون فيما بينهم ويتفاضلون في ميزان الله ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد. إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية، يزيد هذا الإيحاء عمقًا صيغة الاستفهام الاستنكارية التي توحي بأن هذا أمر لا يكون، وأنه مستنكر أن يكون، فمن هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟
وفي ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل؛ فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فزعموا لله سبحانه خليطًا يمازجه أو يشاركه بالنبوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور، أو زعموا له سبحانه أندادًا يشفعون عنده فيستجيب لهم حتما، أو زعموا له سبحانه من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له، في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعده، لا تخرج عن الذهن ولا تجول في الخاطر ولا تلوح بظلها في خيال، وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي فلا تدع مجالًا لتلبيس أو وهم أو اهتزاز في الرؤية، الألوهية ألوهية، والعبودية عبودية، ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء، والرب رب والعبد عبد ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء. فأما صلة العبد بالرب، ورحمة الرب للعبد والقربى والود والمدد، فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكبًا، ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضًا، ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة دون ما حاجة على خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية، ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة (١).
وقوله تعالى:{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}[يونس: ٣]، فالأمر كله له والحكم كله