للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل تعالوا نتدبر حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف كان العفو له سجية:

يُؤذَى أشد الإيذاء من قومه فيُضرب، ويُعذب، ويُلقى على ظهره سلا الجزور، ويُسام أصحابه سوء العذاب، ويُحاصر هو وأهله في شِعب أبي طالب بلا طعام، ولا شراب لمدة ثلاث سنوات، ثم يكون من حاله ما جاء في الحديث الآتي:

عن عائشة - رضي الله عنها - قَالَتْ لِلنَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ الله قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: بَلْ أَرْجُو أنْ يُخْرِجَ الله مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الله وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" (١).

أما عن إيذاءه وضربه - صلى الله عليه وسلم - في يوم أحد الذي سألت عنه عائشة فكان حاله كالآتي:

عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: كأنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: "رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (٢).

وعنه قال: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه جبذةً شديدةً، ورجع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في نحو الأعرابي حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت به حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء (٣).

فأيُّ عنف ينسب إلى شريعةٍ هذه نصوصها وهذا خلق نبيها - صلى الله عليه وسلم -! !


(١) البخاري (٣٠٥٩)، ومسلم (١٧٩٥).
(٢) البخاري (٦٥٣٠)، ومسلم (١٧٩٢).
(٣) البخاري (٢٩٨٠)، ومسلم (١٠٥٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>