للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والفاسقين هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا؛ فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولًا بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه.

فاعلم أن أنواع الهداية أربعة:

أحدها: الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: ٥٠] أي: أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كل عضو شكله وهيئته، وأعطى كل موجود خلقه المختص به ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال، وهذه هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، وهداية الجماد المسخر لما خلق له؛ فله هداية تليق به كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به وإن اختلفت أنواعها وصورها، وكذلك كل عضو له هداية تليق به؛ فَهَدَى الرِجلين للمشي، واليدين للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيات، وكل عضو لما خلق له، وهدى الزوجين من كل حيوان إلى الازدواج والتناسل وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه، ومراتب هدايته سبحانه لا يحصيها إلا هو فتبارك الله رب العالمين، ومن تأمل بعض هدايته المبثوثة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.

وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر، وأول وهلة، وأحسن طريق، وأشدها اختصارًا، وأبعدها من كل شبهة؛ فإنه لم يهمل هذه الحيوانات سدًى، ولم يتركها معطلة؛ بل هداها إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها، كيف يليق به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود الذي كرمه وفضله على كثير من خلقه مهمَلًا، وسدًى معطَّلًا، لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته؟ ! هل يتركه معطَّلًا، لا يأمره، ولا ينهاه، ولا يثيبه، ولا يعاقبه؟ وهل هذا إلا منافٍ لحكمته ونسبته له مما لا يليق بجلاله؟ !

ولهذا أَنْكَرَ ذلك على مَنْ زَعَمَه، ونَزَّهَ نفسه عنه، وبَيَّنَ أنه يستحيل نسبةُ ذلك إليه، وأنه يتعالى عنه، فقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعَالَى

<<  <  ج: ص:  >  >>