للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثاني: أنه - عليه السلام - لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به، فكان تمزيق ثوبه من قدام، وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن، ولو كان ثوبه ممزق من الخلف لكانت المرأة هي الخائنة، فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هاربًا عنها، حتى صارت شهادة الشاهد حجة على براءته عن المعصية (١).

المعنى الرابع: أن يكون معنى: {وَهَمَّ بِهَا} أي: اشتهاها، وهذا مستعمل في اللغة الشائعة، يقول القائل فيما لا يشتهيه: ما يهمني هذا، وفيما يشتهيه: هذا أهم الأشياء إلي، فسمى الله تعالى شهوة يوسف - عليه السلام - همًا. إذن فمعنى الآية الكريمة: ولقد اشتهته واشتهاها لولا أن رأى برهان ربه لدخل ذلك العمل في الوجود (٢).

والشاهد على صحة هذا التأويل قيامُ الدلالة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يعزمون على الفواحش، وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} والصلاة من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الآدميين: الدعاء، وقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ} فالشهادة من الله تعالى إخبار وبيان، ومنهم إقرار (٣).

المعنى الخامس: وإما أن يكون معنى: الهم أنه هم بالإيقاع بها وضربها كما قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ. . .} وكما يقول القائل: لقد هممت بك. لكنه - عليه السلام - امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها، وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته على مظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بقد القميص (٤).


(١) تفسير الرازي (١٨/ ١١٨).
(٢) التفسير الكبير للرازي (١٨/ ١١٨، ١١٩)، تفسير الماوردي (٣/ ٢٤).
(٣) الفروق اللغوية (٥٥٨)، أحكام القرآن للجصاص (٣/ ١٧٠).
(٤) الفصل في الملل والهواء والنحل لابن حزم (٤/ ١٠)، وهو مذهب ابن الأنباري، وانظر: زاد المسير لابن الجوزي (٤/ ٢٠٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>